29/11/2022 - 15:45

إيقاعات الزمن: إعادة سرد تاريخ فلسطين | فصل

إيقاعات الزمن: إعادة سرد تاريخ فلسطين | فصل

«إيقاعات الزمن: إعادة سرد تاريخ فلسطين» (2022)

 

صدر حديثًا عن «دار العائدون للنشر والتوزيع»، في عمّان، الترجمة العربيّة الأولى لكتاب الباحث البريطانيّ كيث وايتلام، بعنوان «إيقاعات الزمن: إعادة سرد تاريخ فلسطين»، وبترجمة د. لمى سخنيني.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الكتاب بالتعاون مع الناشر. 

 


 

إنّ ماضي فلسطين حاسم في حاضرها ومستقبلها أيضًا، فنحن على دراية بالصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ الّذي يُعرَض على شاشات تلفزيوناتنا، بما في ذلك حرمان الفلسطينيّين من حقّهم في تقرير المصير، وهم في مواجهة القوّات العسكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة والإعلاميّة الإسرائيليّة-الأمريكيّة. وفي ما نراقب صور الصراع هذه، لا يتجلّى لنا كيف أنّ فلسطين تُجرَّد باستمرار من ماضيها. ويكرّر المتحدّثون باسم الحكومة الإسرائيليّة، باستمرار، ومن خلال المواقع الحكوميّة الرسميّة، الفكرة القائلة بأنّ قيام إسرائيل ما هو إلّا استعادة وطن قديم عاصمته القدس.

يبدو كأنّ فلسطين قد دخلت حيّز الوجود فقط مع الانتداب البريطانيّ، ووصلت إلى نهايتها بإعلان دولة إسرائيل الحديثة (...) نموّ المدن، أو التحوّل في القرى، أو تحرّكات السكّان منذ ثلاثة آلاف عام، كلّه قد انفصل عن فلسطين الحديثة...

هذا الادّعاء قويّ جدًّا، إلى درجة أنّه يشكّل السياسة الخارجيّة لواشنطن وللعواصم الأوروبّيّة؛ فذلك الماضي مهمّ لأنّه، أوّلًا، لا يزال يتجلّى في الوقت الحاضر، ولأنّ فلسطين، ثانيًا، قد جُرِّدت من الكثير من تاريخها في القرنين التاسع عشر والعشرين. وبهذا، يبدو كأنّ فلسطين قد دخلت حيّز الوجود فقط مع الانتداب البريطانيّ، ووصلت إلى نهايتها بإعلان دولة إسرائيل الحديثة. إنّ نموّ المدن، أو التحوّل في القرى، أو تحرّكات السكّان منذ ثلاثة آلاف عام، ذلك كلّه قد انفصل عن فلسطين الحديثة. وقد عانى تاريخ فلسطين العلاقة المزدوجة للسيطرتين الإمبرياليّة والاستعماريّة، كما أنّ بناء التاريخ الوطنيّ من القرن التاسع عشر وما بعده، خاصّة بعد الحرب العالميّة الثانية، قد فهمته جميع الدول الحديثة بوصفه تعبيرًا عن الوعي القوميّ والسيادة الوطنيّة.

 

 تاريخ فلسطين ما بعد الاستعمار

لكنّ الغريب هنا، وربّما الفريد من نوعه، هو أنّه مع تراجع القوى الأوروبّيّة، بريطانيا على وجه الخصوص، فإنّ تاريخ ما بعد الاستعمار، لم يكتبه سكّان فلسطين المحلّيّون، وإنّما كتبته القوى الاستعماريّة الجديدة؛ فكان انعكاسًا وتدعيمًا لما قد مضى، حتّى صار التاريخ رواية صهيونيّة استعماريّة، ترجع أصولها إلى الأوروبّيّة. وببساطة، فقد كُرِّرَت وعُزِّزَت الفكرة القائلة بأنّ الغزو الخارجيّ أحضر الثقافة والحضارة إلى المنطقة؛ فخسرت فلسطين تاريخها لأوّل مرّة، مقابل القوى الإمبرياليّة الأوروبّيّة، ثمّ مقابل إعادة البناء الصهيونيّ للماضي الّذي أصبح سريعًا هو الرواية القوميّة لإسرائيل. وهكذا أصبح تاريخ فلسطين مدفونًا تحت طبقتين من التاريخ الإمبرياليّ والاستعماريّ، وهما طبقتان سميكتان جدًّا يصعب اختراقهما. وبقدر أهمّيّة فهْم الكيفيّة الّتي حدث بها ذلك، فمن المهمّ أيضًا، وبالقدر نفسه، فهْم معنى هذا النضال الفلسطينيّ المعاصر. أمّا: لماذا هو مهمّ؟ فالإجابة عن هذا السؤال أسهل كثيرًا من الإجابة عن السؤال المحيّر: كيف خسرت فلسطين ماضيها؟  

 

كيف خسرت فلسطين ماضيها؟

خلال الانتخابات الجمهوريّة التمهيديّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة في عام 2012، ادّعى نيوت غينغريتش[1]، في مقابلة له على القناة اليهوديّة على تلفزيون ’الكابل‘، أنّ الفلسطينيّين هم شعب مُخترَع. وفي ردّه على سؤال: "هل تعتبر نفسك صهيونيًّا"؟ الّذي من المتوقّع أن يكون جوابه عنه "نعم" أو "لا"، لكنّه أجاب بأنّ إسرائيل لها الحقّ في إقامة دولة. وقال: "تذكّر أنّ فلسطين ليست دولة ولم تكن، بل كانت جزءًا من الإمبراطوريّة العثمانيّة، وفي اعتقادي نحن من اخترع الشعب الفلسطينيّ، ولكنّهم في الواقع عرب، ومن الناحية التاريخيّة هم جزء من المجتمع العربيّ، وبإمكانهم الذهاب إلى أماكن كثيرة".

ومضى قائلًا بأنّ جهود الرئيس أوباما لمعاملة الفلسطينيّين - مثلهم مثل الإسرائيليّين - هي "لصالح الإرهابيّين". ثمّة بالطبع الكثير من الردود الّتي يمكن المرء أن يقدّمها حول فهْم غينغريتش للتاريخ، أو كيفيّة بناء الهويّة الوطنيّة، أو تحديد المساواة في المعاملة. ومع ذلك، فإنّه من المهمّ لنا اعتبار أنّ وجهات نظره هذه توفّر جزءًا من الإجابة عن سؤالنا. يكرّر غينغريتش ادّعاء قديمًا من غولدا مائير بأنّ الفلسطينيّين غير موجودين. هذا الادّعاء حظي أيضًا بشعبيّة في عام 1980 من قِبَل جوان بيترز في كتابه «من الزمن السحيق» (1984)[2].

فكرة أن تكون أمّة بلا ماضٍ مصطلحًا يناقض ذاته؛ فإذا كان الفلسطينيّون لا يمتلكون ماضيًا، فلن يمتلكوا وعيًا وطنيًّا، ولن يكونوا شعبًا، لذلك ليس لديهم الحقّ في الأرض أو في دولة...

 

لقد اتّخذ هذا الكتاب، الّذي كان من أكثر الكتب مبيعًا في الولايات المتّحدة، مظهرًا علميًّا؛ إذ احتوى على الكثير من الهوامش. وقد عرضت تلك الهوامش المفترضة مجموعة من أرشيفات ووثائق مختلفة، لتثبت أنّ الفلسطينيّين هم جميعًا مهاجرون جدد إلى مناطق مأهولة باليهود في فلسطين السابقة، خلال فترة الانتداب البريطانيّ (1920-1948). لكنّ ذلك الكتاب ما لبث أن خسر مصداقيّته على يد نورمان فينكلشتاين[3] قبل بضع سنوات، حين أظهر هذا الأخير أنّ الكثير من تلك الأدلّة قد لُفِّقَت. ولسوء الحظّ فإنّه لا يزال من الممكن رؤية تأثير ذلك بشكل واضح؛ إذ إنّ سياسيًّا مثل غينغريتش يكرّر هذه المزاعم، وكأنّها حقيقة تاريخيّة.

ويقبع وراء ادّعائه هذا مبدأ مهمّ جدًّا: فكرة أن تكون أمّة بلا ماضٍ مصطلحًا يناقض ذاته؛ فإذا كان الفلسطينيّون لا يمتلكون ماضيًا، فلن يمتلكوا وعيًا وطنيًّا، ولن يكونوا شعبًا، لذلك ليس لديهم الحقّ في الأرض أو في دولة. ومن هنا جاء ردّه على السؤال: "هل تعتبر نفسك صهيونيًّا؟" هو أنّ لإسرائيل الحقّ في إقامة دولة؛ فهي لديها ماضٍ؛ لذلك لديها الحاضر والمستقبل.

 

الماضي لأجل الحاضر

لعلّ النتيجة الطبيعيّة لادّعاء غينغريتش بأنّ الفلسطينيّين هم شعب مُخترَع، هي أنّه يمكن طردهم، لأنّه ليس لهم الحقّ في أن يكونوا هناك، وهذه سياسة يدعو إليها العديد من السياسيّين والأحزاب السياسيّة الإسرائيليّة. ولسوف أعرض هنا مثالين آخرين لتوضيح أنّ ماضي فلسطين مهمّ جدًّا لحاضرها ومستقبلها؛ ففي خطابه أمام الكنيست في الذكرى الستّين لتأسيس دولة إسرائيل، ادّعى جورج دبليو بوش أنّ: النتيجة لما قد حصل هي أكثر من إنشاء دولة جديدة؛ فما حصل كان تنفيذًا للوعد القديم الممنوح لإبراهيم وموسى وداود، وهو وطن للشعب المختار.

بالنسبة إلى بوش، وكما هو الحال بالنسبة إلى الكثير من السياسيّين الأمريكيّين مثل غينغريتش، فإنّ الدولة الحديثة (إسرائيل) لديها ماضٍ موصوف في الكتاب المقدّس. وبالنسبة إليهم، فإنّ ما يحصل هو العودة إلى الأرض الّتي منحها الله لهم. وهكذا يصبح الكتاب المقدّس «التوراة»، صكّ الملكيّة في النضال المعاصر من أجل الأرض. وعلى النقيض من ذلك، لا يستطيع الفلسطينيّون أن يطالبوا بهذا الماضي؛ لأنّه يُنظر إليه على أنّه ماضٍ لإسرائيل كما نصّ عليه الكتاب المقدّس.

المثال الآخر لكيفيّة دمج هذه الأفكار والمعتقدات في النسيج الأمريكيّ الثقافيّ والسياسيّ، جاء في مذكّرات الرئيس كلينتون «حياتي» (2004)[4]، الّتي كشف فيها عن الليلة الّتي سبقت اللقاء بين عرفات وبيغن في البيت الأبيض[5] في 14 أيلول (سبتمبر) 1993، حيث إنّه، كلينتون، استيقظ في الساعات الأولى للصباح، وقرأ «كتاب يشوع». وكما هو الحال مع غينغريتش وبوش وسياسيّين أمريكيّين لا يُحصَون، ومن جميع المشارب، اعتقد كلينتون أنّ مثل هذه القصص التوراتيّة توصله بتاريخ تلك المنطقة.          

تُفهَم الهجرة الجماعيّة والغزو على أنّهما قصّتان عن التحرّر من العبوديّة وامتلاك أرض منحها الله لهم. وهي الصورة الأكثر صدًى في السياسة الأمريكيّة؛ لأنّها هي أيضًا صورة تأسيس الولايات المتّحدة: الهروب من الاضطهاد، وغزو الأرض الموعودة...

إنّ ما نتعامل معه هنا هو سلسلة من الصور القويّة جدًّا عن الماضي، مستمدَّة من وجهة نظر مستوحاة من التأريخ التوراتيّ، تتشارك فيها المسيحيّة واليهوديّة. إنّها مزيج يجعلها أكثر تأثيرًا في السياسة الأمريكيّة. هذه هي القصص التوراتيّة لموسى، والهروب من العبوديّة في مصر، وغزو يشوع لكنعان والاستيلاء على الأرض الموعودة، وإقامة نظام ملكيّ أو دولة تحت قيادة داود وسليمان تتمركز في القدس - وهذا ما يشير إليه العلماء في كثير من الأحيان بـ «المملكة المتّحدة» - ومن ثَمّ الممالك المستقلّة لإسرائيل في الشمال ويهودا في الجنوب، وفي تبرير ادّعائه أنّ إسرائيل دولة، ادّعى غينغريتش أنّ اليهود كانوا في القدس ثلاثة آلاف عام-  في إشارة إلى قصّة داود واستيلائه على القدس المذكورة في الكتاب المقدّس - وهي صورة قويّة أخرى؛ فإسرائيل لديها ماضٍ، ولذا؛ فهي لديها حاضر كدولة حديثة، أمّا فلسطين فليس لديها ماضٍ ولا حاضر.

بالنسبة إلى أشخاص مثل غينغريتش، تُفهَم الهجرة الجماعيّة والغزو على أنّهما قصّتان عن التحرّر من العبوديّة "عبوديّة اليهود في مصر"، وامتلاك أرض منحها الله لهم. وهي الصورة الأكثر صدًى في السياسة الأمريكيّة؛ لأنّها هي أيضًا صورة تأسيس الولايات المتّحدة: الهروب من الاضطهاد، وغزو الأرض الموعودة. لا يوجد، في كلتا الحالتين، أيّ ذكر لأولئك الّذين جُرِّدوا من أراضيهم أو من ماضيهم.

 

 


إحالات

[1] نيوت غينغريتش (Newt Gingrich)K هو سياسيّ ومؤلّف ومعلّم تاريخ أمريكيّ، شغل منصب رئيس «مجلس النوّاب» 58، بين الأعوام 1995-1999. رؤيته للعالم قريبة جدًّا من نظرة رئيس الوزراء الإسرائيليّ، بنيامين نتنياهو.

[2] Joan Peters, Time Immemorial, (1984).

[3] هذه المزاعم نفّدها مرارًا نورمان فينكلشتاين والعديد من الكتّاب والصحافيّين، شاهد على سبيل المثال: المقابلة مع David Remnick الصادرة في 13 كانون أوّل 2011 في صحيفة «هآرتس».

[4] Bill Clinton, My Life, (Knopf Publishing Group, 2004).

[5] في عام 1993، وفي البيت الأبيض تحت رعاية أمريكيّة من الرئيس الأسبق للولايات المتّحدة بل كلنتون، وبعد عامين من المفاوضات السرّيّة، وقّع رئيس الوزراء الإسرائيليّ إسحاق رابين، والرئيس الفلسطينيّ ياسر عرفات الاتّفاقيّة الّتي عُرفت بـ «اتّفاقيّة أوسلو» في البيت الأبيض.

 


 

العائدون للنشر والتوزيع

 

 

 

دار نشر أردنيّة تختصّ في نشر المؤلّفات الثقافيّة والفكريّة والإنسانيّة. 

 

 

 

التعليقات